لمحة عن الشامانية في ليبيا
1
في أوائل خمسينيات القرن التاسع عشر، كان الكاهن أفاكوم يسير في طريقه إلى أرض شعب إيفينكي رعاة الرنة. كان الكاهن يسير وهو يشعر بالهواء البارد يملأ رئتيه وهو يصعد تلًا صغيرًا. كانت كلمات بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية الروسية الخاصة بنفيه إلى وسط سيبيريا تفرض نفسها على تفكيره. لم يكن في عقله صراع متنافر لا نهاية له، ولا كلمات مربكة من الصعب هزيمتها؛ فقط كان شعور بالمرارة يطفو على سطح روحه الشفافة. لم يكن أحد قبل وصوله قد سمع كلمة “شامان” التي تشبه الجوهر الصامت، لكن بعد إعدام أفاكوم عام 1682م بتهمة الهرطقة، كان رعاة الرنة يعرفون جيدًا المفاهيم الكونية التي تستند إليها كلمة “شامان”، وهي المفاهيم التي رُسمت بيد الحلم، وأطلق عليها علماء الأنثروبولوجيا اسم الدراسات الشامانية. ومع عبور روسيا من قبل المبشرين والمنفيين وعملاء القيصر والرحالة الأوروبيين، وكلهم من أصحاب التعليم العالي، سُجلت المزيد من القصص عن الممارسات والمعتقدات الشامانية. كانت القصص التي رواها الرحالة الأوائل مذهلة وأثارت اهتمامًا بالغًا في روسيا وأوروبا. ظهرت صورة مجزأة لعالم ذي أرواح، كل شيء فيه حي ومزدحم بالأرواح والحيوانات ومعالم الطبيعة. بهذه الكائنات ترتبط كل جوانب الحياة المادية: المرض والصحة، وتوفير الطعام والمأوى، والنجاح في الصيد، ورفاهية المجتمع. لذا، كان الحفاظ على علاقة جيدة مع هذه الأرواح ذا أهمية بالغة. كانت أبرز قصص الرحالة تتعلق بالأفراد المميزين الذين بلغوا حالات من الغيبوبة والنشوة لإرسال أرواحهم للتواصل مع هذه الكائنات الخارقة. قصة أفاكوم وردت في كتاب: “علم آثار الحالات المتغيرة: دراسات الشامانية والثقافة المادية” الذي حرره نيل س. برايس. والغريب في الأمر هو قول الكاتب: “السؤال الجوهري هو ما إذا كان بإمكاننا حقًا التحدث عن الشامانية خارج نطاق القطب الشمالي. هنا ندخل إطارًا أوسع للتفسير، ينطلق من سيبيريا والمنطقة القطبية الشمالية على نطاق شمولي متدرج ليشمل السمات الشامانية في الممارسات الطقسية في أمريكا الجنوبية وأوقيانوسيا وإفريقيا (المثيرة للجدل بشكل خاص”[1].
لماذا إفريقيا مثيرة للجدل بشكل خاص؟ لأن عمر الشامانية فيها يمتد لآلاف السنين، ووجودها قد يمتد إلى نهاية البليستوسين. والجدل يقوم على التشكيك في القصة الجميلة الخاصة بالكاهن أفاكوم، وفي حقيقة أن بداية الدين الشاماني في ما قبل التاريخ كانت في روسيا. إن أقل نظرة للفن الصخري في جنوب إفريقيا وليبيا تحديدًا تجعل القول بأن الشامانية بدأت عام 1682م وأن مهدها كان في روسيا مجرد مزحة. لقد تم إهمال الشامانية في إفريقيا، وهذا ما يعترف به ميرسيا إلياد نفسه، وهو المسؤول إلى حد كبير عن نشر مفهوم الشامانية، قائلاً: “لقد أغفلنا إفريقيا”[2]. إن الغريب في الأمر أن أنثروبولوجيًا مثل لوك دي هوش يقول: بأن الشامانية نادرة في إفريقيا، في حين أن كاتبًا مثل ميشيل ليريس، الذي زارها، يؤكد أن الشامانية واسعة الانتشار فيها. لقد وثقنا في كتابنا “أرض الجرمنت” انتشار الدين الشاماني في ما قبل التاريخ في ليبيا، وركزنا على أن هذا الدين هو في الحقيقة دين المطر. أهم ما يجب أن يقوم به الشامان لمجتمعه هو جلب المطر. هنا سوف نقوم بعرض بسيط لأهم ركائز الشامانية، ونعرض بعض التشابهات بين الشامانية في ليبيا وجنوب إفريقيا وأماكن أخرى من العالم
2
دين المطر يتمحور حول الشامان، فهو الوحيد الذي يعرف تجربة الغيبوبة ويتقن ممارستها، وهو الوحيد القادر على التماهي مع الأرواح من العالم الآخر ورسم جدارياته بعد العودة من الغيبوبة. هذا الانتقال من عالم إلى آخر يكون بوسيلتين: الأولى، يستدعي فيها الشامان كيانات مساعدة يتحكم بها ويتواصل معها؛ الثانية، هي إرسال روحه إلى العالم الآخر أثناء الغيبوبة للتواصل مع القوة الخارقة للطبيعة. يبني د. لويس ويليامز وت. أ. داوسون للفن الصخري في جنوب إفريقيا على نموذج نفسي عصبي للغيبوبة. هذا النموذج مقسم إلى ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: ظواهر داخلية للعين، يمكن العثور على ستة من الأشكال الهندسية في الرؤى الداخلية، وهي: النقاط، الخطوط المتعرجة، الشبكات، الخطوط المتموجة المتوازية، وأنماط قرص العسل.
المرحلة الثانية: يسعى العقل إلى عقلنة الأشكال من أجل إعطائها معنى وتنظيم نفسها، حيث يشعر الشامان في هذه المرحلة وكأنه يمر عبر نفق أو يُسحب في دوامة.
المرحلة الثالثة: يصاب الشامان فيها بهلوسات مذهلة تحرك حواسه الخمس بشكل مربك إلى حد ما. في هذا العالم من الغيبوبة، يمكن للشامان أن يسافر ويحلق في الهواء، ويواجه حيوانات وكائنات خارقة – بشرية وحيوانية. كما يمكنه أن يحول نفسه إلى حيوان ويتماهى معه تمامًا.
تعتمد رحلة الشامان إلى عوالم أخرى على قدرته على الدخول طواعية في حالة وعي متغيرة. أثناء الغيبوبة، يسافر الشامان إلى بعد آخر ويتفاعل مع كيانات من أجل مصلحة مجتمعه. يمكن القول إن الرحلة الشامانية هي رحلة الروح، رحلة بين عالم مرئي واقعي وعالم غير مرئي روحي. وللشروع في الرحلة، يجب أن تكون هناك رؤية، وحيوان مساعد، وتسخير القوة الخارقة للطبيعة. تدخل روح الشامان عبر ثقب يُسمى القلتة، ثم ينطلق عبر نفق إلى العالم الآخر. القلتة حفرة مقدسة، وهي عبارة عن روح الشامان بعد موته وسقوطها على الأرض في شكل نجمة تخلق حفرة الماء. وهي نفسها الحفرة التي يعود الشامان إلى الظهور منها بعد العودة من الغيبوبة. قبل الرحلة، يجب أن تُقام طقوس رقصة الغيبوبة، التي يدخل بسببها الشامان في حالة وعي متغيرة. وعادة ما تصاحب هذه الرقصة نزيف من الأنف، بعدها يدخل الشامان في الغيبوبة. في نهاية الطقوس، يكون عادة مستلقيًا على ظهره ويشعر بأنه تحت الماء وقد فارقت روحه جسده. في هذه الحالة، هو نصف حي ونصف ميت، وقد لا يعود من رحلته أبدًا. في اللحظة التي تصعد فيها روح الشامان، دائمًا ما تكون هناك امرأة تسهر على حياته أثناء الغيبوبة، وتسمى المرأة الحامية. بعد عملية الإظهار للوحة من كتاب فابريزيو موري “تادرارت الأكاكوس”، بعنوان: “منظر به رجل ميت في وضع استلقائي نهاية دور الرؤوس المستديرة”، وجدنا هذه الطقوس كاملة (شكل 1). يظهر في اللوحة رقصة الغيبوبة، والشامان في حالة غيبوبة، وإلى جانبه المرأة الحامية وحيوان المطر (سنتحدث عنه لاحقًا). نلاحظ الشكل الهندسي الذي يمثل الشبكة على جسد الشامان، بالإضافة إلى النقاط والخطوط المتوازية، وهي ما يراه الشامان في المرحلة الأولى من الغيبوبة.

شكل 1.1- (Mori,1965).

شكل1.2- رسم للجدار , وان موهجاج، ليبيا.
في (شكل 2)، نجد لوحتين في نفس السياق الذي وجدناه في الأكاكوس. الأولى في الأعلى من جنوب إفريقيا، وفيها الشامان في حالة غيبوبة وبجانبه المرأة التي تساعده على العودة من الغيبوبة. اللوحة الثانية من جبل العوينات في ليبيا، وفيها أيضًا الشامان في حالة غيبوبة، وإلى جانبه المرأة التي تقوم بنفس الدور. هذه مجرد أمثلة بسيطة عن وحدة الدين الشاماني في أماكن كثيرة من إفريقيا.

شكل 2
في الحالة التي يصعد فيها الشامان إلى بيت الماء، تتسلق روحه خيوط النور، وفي حالات أخرى يتحول إلى طائر. في (شكل 3)، من وان أفودا في الأكاكوس، يظهر الشامان في طريقه للتحول إلى طائر، وفي (شكل 4)، من جنوب إفريقيا، يتحول الشامان إلى طائر، وتبين اللوحة مراحل هذا التحول. وهناك لوحة أخرى من جنوب إفريقيا (شكل 5) تبين أيضًا كيفية التحول من إنسان إلى طائر. هذه التشابهات والنسخ المتكررة تثبت أن الشامانية ليست مجرد طقوس، بل هي ديانة ما قبل التاريخ، وأهم جزء في هذه الديانة هو الشامان وقدرته على جلب المطر.

شكل 3- مخبأ وان أفودا، وادي تاشوينت، ليبيا

شكل 4- لوحة من البوشمان،جنوب افريقيا.

شكل 5- اليوال الشمالية, جنوب افريقيا.
3
كانت الحياة بأكملها في ما قبل التاريخ تعتمد على المطر. الثمار، العشب، الرعي، الصيد — كلها نشاطات اقتصادية قائمة على المطر. الحرمان من المطر هو الحرمان من الحياة واستمرارها. كان الشامان يحظى بالاحترام لأنه قادر على تلبية حاجة المجتمع من المطر. جلب المطر هي المهمة الأولى التي يجب على الشامان القيام بها. بعد عودته من رحلته، التي فاوض فيها الأرواح التي تمسك بزمام المطر، هناك مهمة أخرى وهي سحب حيوان المطر من القلتة التي يعيش فيها تحت الماء. قد يكون حيوان المطر ثورًا أو بقرة، وبعد سحبه من الماء بحبل يُجر على أكبر مساحة من الأرض القاحلة، يُذبح ويُقطع، وتوضع أجزاء منه في الأرض المراد نزول المطر فيها.
في (شكل 6) من جبال العوينات، نرى في أعلى اللوحة عملية سحب حيوان المطر. وفي لوحة من جنوب إفريقيا (شكل7)، تُبين اللوحة عملية سحب حيوان المطر. أيضًا، هناك لوحة (شكل 8) من تاسيلي تُظهر بوضوح عملية جر حيوان المطر في الأراضي القاحلة وهو مربوط بحبل، ولوحة أخرى من جنوب إفريقيا تمثل نفس الطقس وبنفس الطريقة (شكل 9).
هذه مجرد أمثلة بسيطة عن التشابه الغريب في الممارسات والطقوس بين ليبيا وجنوب إفريقيا. وإن كانت في ليبيا، ربما تكون أقدم، لأن طقوس ديانة المطر في ليبيا منقوشة في الكثير من الأماكن، وهذه النقوش يعود تاريخها إلى نهاية البليستوسين.

شكل 6- سحب لحيوان المطر، جبل العوينات، ليبيا.

شكل 7- (H.C. WOODHOUSE)

شكل 8- سحب لحيوان المطر تين زيريفت، الجزائر.

شكل 9- (courtesy of the Rock Art Research Institute, University of the Witwatersrand, the KwaZulu-Natal Museum, and L. Smits; see Smits 1973: 32, fi gure 1)

Mohammed Altarhuni
Writer and researcher