لماذا علينا اليوم إعادة النظر في طبيعة التاريخ؟ إن هذا السؤال يطرح شعريةَ العودة إلى الماضي كمجال مفتوح على السرد الذي يتجاوز خطيّة الأحداث التي تقودنا إلى خزانة الوقائع المغلقة؛ تلك الوقائع الرافضة لتراكب العلوم الإنسانية وتداخلها من أجل تصوّرات أكثر انحيازًا لفهم الإنسان الذي أشعل نار الذاكرة الأولى لابتكار المعنى، بوصفه كائنًا لا يصنع الوقائع فحسب، بل ينزاح في حزن وجوده إلى أبعد من مجرّد إمساكه بغصنين من الخشب لإضرام حيوية النور في كهفه لتدفّق المعرفة. ولكن، أيُّ معرفةٍ تلك؟ وأيُّ ضرورةٍ حسّيةٍ اجتاحته للغناء الطويل والرقص حول اللهب؟ لربما هذا الإنسان فكّر كمؤرّخٍ حرّ، ولم تُغره الحقيقةُ العلميةُ في شكلها الجامد، بل في طبقاتها السحرية المتراكبة، فيما يلمع في قلب النار، وما يغيب في هوامش أفقه اللانهائي فوق الجبال، وفي ما يُخفيه الصمت في رماد الأجيال القادمة من وميض الاكتشاف. إن إعادة التشكيل والابتكار في ما بعد الحداثة صيرورةٌ فكريةٌ متحفزة في مساءلة الحقيقة التاريخية وتفكيك يقينها. ولعل جاك دريدا من أوائل الذين لفتوا الانتباه إلى هشاشة المعنى واستحالة القبض على الأصل في أيّ نصٍّ تاريخي، بينما دفع ميشيل فوكو تاريخَ الأفكار نحو السلطة بوصفها هي من تصنع المعرفة، مُبيّنًا أن سرديات الماضي ليست بريئة بالكامل من شبكات الظروف التي تنتجها. وكذلك هايدن وايت، الذي ساهم في تأسيس نظرية «السرد التاريخي»، وقدم قراءةً جذرية ترى أن التاريخ لا ينفصل عن بنيته السردية، وأن المؤرخ، مهما ادّعى الحياد، يكتب ضمن قوالب أدبية تلوّن تفسيره للأحداث.



إن نظرتنا إلى التاريخ اليوم لا يكفيها التفسيرُ الشامل والنهائي، أو مجرّد التجاور مع الأنثروبولوجيا وعلم النفس وعلم الاجتماع والجغرافيا والفلسفة؛ فهذا التحوّل الجذري العميق في البنية الفكرية لتعدّد التخصصات لا يُشبعه الحياد، بل يحطّم مرايا جمود الخطاب التقريري، لصالح جمالياتٍ تُعلن نفسها وريثةً للذاكرة الجماعية للفعل السردي في هسهسة اللغة التي تخترع النص الأمثل لقراءة التاريخ كشبكة ديناميكية من مسارات الاحتمال اللانهائية. واليوم يمكن القول إن كسر الحدود التقليدية للتاريخ صار ممكنًا فقط بالكتابة التي تعيد بناء الماضي عبر أدوات متعددة، من تحليل الخطاب، وقراءة الصور، إلى علوم البيانات. فبهذه الأدوات يمكن لتاريخنا الليبي أن يتحوّل إلى مادةٍ حيّةٍ يُعاد تشكيلها مع كل اكتشاف جديد، ومع كل زاوية نظر مختلفة تخبرنا أن الماضي ليس كتلةً مكتملة، وأن هذه النظرة المتأمّلة في ما وراء حدود الحكاية التاريخية يمكن أن تجعل التاريخ مشروعًا منفتحًا لفهم إنسان النار الأولى قبل أن يكون مشروعًا مغلقًا لفهم الزمن، وممارسةً نقديةً لا تكتفي بالتفسير وحده، بل تُسائل الأسئلة نفسها: فما معنى أن نكتب الماضي في زمنٍ تتغيّر فيه أدوات المعرفة ومعايير الحقيقة؟

Hamza Alfallah
Writer and researcher