معرض أنا ليبيا
بتاريخ 27 / أكتوبر عام 2021، أُطلق أول معرض للفن التشكيلي ضمن سياق مشروعنا «الهوية»، وهو المعرض الشخصي الأول للفنانة التشكيلية شفاء سالم، والنسخة الأولى له في مدينة بنغازي، تحت عنوان «أنا ليبيا». وقد اخترنا أن نطلق عليه هذا العنوان المباشر لجمع عناصر عدة موضوعات رئيسية لثمانِ لوحاتٍ أصلية من نتاج الفنانة، تغطي جزءًا معرفيًا مهمًا عن التاريخ الليبي، ابتداءً من لوحة الناي الليبي التي قُدمت بشكل معاصر لأهمية هذه القطعة الموسيقية كأول آلة نفخية عُرفت من خلال كهف (هوافطيح)، وهو من أبرز المعالم التاريخية في العالم، لأهميته في التاريخ الأثري الأفريقي وعصور ما قبل التاريخ البشري الحديث. يقع هذا الكهف في شمال شرق ليبيا، وقد قُدِّر من قبل العلماء وجود الإنسان فيه إلى مئتي ألف سنة، وعن طريقه اكتُشفت العلاقة العاطفية ما بين الليبيين القدماء وفن اختراع الناي كأول آلة نفخية مكتشفة من نوعها، وهو ما يبرره اكتشاف جزء من قطعة آلة الناي أثناء التنقيب في الكهف عام 1955، لمزمار عظمي. أما عن ثاني هذه الأعمال، لوحة طقوس الجنازة في الأكاكوس، ولهذا العمل صبغة شعرية ملهمة، يكون الحزن فيها ذاكرة حية تعبر عن طقوس الليبيين القدماء في تمهيد عبور الميت إلى العالم الآخر، ولهذا العبور في إثنوغرافيا القبائل الليبية القديمة تقليد طويل يختلف باختلاف نظرتهم إلى الحياة والموت في التعبير عن الاتصال مع أسلافهم لاستلهام الأحلام والنبوءات. اللوحة الثالثة وهي آلهة السيلفيوم، ولليبيين مع هذا النبات الأسطوري كنز ليبيا القديم الذي اختفى في القرن الأول الميلادي بسبب الحصاد الجائر، وفي هذه اللوحة لم يكن التعبير مقتصرًا على هذا النبات كثروة اقتصادية بحد ذاته، وإنما جمعت كل عوامل غيابه في نظرة كلا السيدتين اللتين تمثلان العمل – نظرة الحنين الحاضر على الدوام لهذا السحر الليبي الحميم في سيقانه الصلبة وأوراقه الخشنة. أما عن رابع الأعمال، لوحة عائلة التحنو الليبية بملابسهم الجلدية، وهم الذين وصفهم هيرودوتس بالقرمزيون (اللون الأحمر المزرق) كإحدى العلامات التي تميزهم عن غيرهم، هذه العائلة، وتحديدًا في هذه اللوحة، بعيون تملؤها العزيمة على مقاومة الموت والجفاف. سكنوا الواحات الغربية بعد هجرتهم من موطنهم الأصلي من الجنوب الغربي، حيث جبال تاسيلي والأكاكوس، يحملون معهم دينهم القديم وثقافتهم وأساطير الماء التي نقشها أسلافهم الحالمون بوعد المطر على الصخور في الصحراء. تأتي اللوحة الخامسة، عربة الصحراء الخاصة بالجرمنت، في ذات السياق الرمزي للثقافة الليبية الصحراوية، وتأكيدًا على قوة هذه الحضارة، تضع الفنانة شفاء سالم العربة أمام المتلقي للسفر به عبر المسارات الوعرة بيدي الفارس الذي يقودها من وادي الآجال إلى حلم خلود النفوذ الجرمنتي وعمق هيمنته الاقتصادية والحربية إلى قلب الصحراء الكبرى، فهذه اللوحة هي لوحة القلق الروماني القديم، سقوط الجينرالات وفشل السيطرة لإخضاع الأراضي الليبية.

الناي الليبي

طقوس الدفن في الأكاكوس

الهة السيلفيوم

عائلة ليبية من التحنو

عربات الصحراء – الجرمنت
أما عن اللوحة السادسة، ليلة الأقواس التسعة، فتأتي ضمن سياق المقاومة الحربية والتحالف الليبي ما بين (الليبو، والمشواش) ضد حكم الفرعون مرنبتاح بقيادة ماري بن ديد (المحب)، وقد ذُكر حوالي 1209 ق.م، وهو من وحّد القبائل الليبية للحد من معاناتهم في عهد الأسرة التاسعة عشرة. تأتي اللوحة السابعة، رقصة الكاسكا، كتقليد قديم للصراع، وفي هذه اللوحة تذهب الفنانة بموضوع الكاسكا إلى التمثيل المعاصر لمعاناة المرأة في المجتمع الذكوري، أولئك المتناطحون بالعصي لإيقاف تطلعات وأحلام النساء الليبيات في التعبير عن أنفسهن، إلا أن الرمزية الطقسية للون الماء الحزين والعطش في عمل الفنانة لا يمكن إغفاله في جزئها السلفي، حيث يتجمعن النساء في حالة الانتظار القديمة – انتظار المطر، فهذه الرقصة تحمل جانبين طقسيين لارتباطها بالماء: الأول الحرب مع العطش، والثاني بالخصوبة واستنزال المطر. أما حول اللوحة الثامنة من أعمال المعرض، والأخيرة، وهي مرتبطة أيضًا بنبات السيلفيوم البري، لامرأة نبيلة تجلس وتمد يدها برفق كوداع أخير بسبب انقراضه على يد الإغريق الذين كانوا يصدرونه بكميات كبيرة لدعم الخزانة في آثينا، واتهام بليني للرومان الذين كانوا يطعمونه لقطعانهم، وبحسب ألفريد سي أندروز كان نبات السيلفيوم يغطي مساحة تبلغ حوالي 440 ميلًا من بنغازي إلى سرت، وربما كان أكثر وفرة في سرت منه في قورينا.

ليلة الأقواس التسعة

رقصة الكاسكا

الهة السيلفيوم 2
في هذا المعرض، وهو الأول من نوعه، عمدنا إلى تقديمه بوصفه مساحة بصرية وسردية تستعيد جزءًا من الذاكرة الليبية عبر الفن، وتعيد تقديم التاريخ لا كوقائع جامدة خالية من الروح، بل كتجربة عاطفية وحية متعددة الأصوات. جمع المعرض هذه الأعمال الفنية المعاصرة المستلهمة من الموروث الحضاري الليبي، ليعكس تنوع الأزمنة والرموز التي شكّلت بعض محطات هذا التاريخ، وأيضًا ليؤكد دور الفن كوسيط للوعي بالهوية، وكسؤال مفتوح حول الانتماء والذاكرة والمستقبل.



